فصل: تفسير الآيات رقم (21- 40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


سورة آل عمران

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏5‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏6‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏8‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏الم * الله‏}‏ حركت الميم لالتقاء الساكنين أعني سكونها وسكون لام «الله» وفتحت لخفة الفتحة، ولم تكسر للياء وكسر الميم قبلها تحامياً عن توالي الكسرات، وليس فتح الميم لسكونها وسكون ياء قبلها إذ لو كان كذلك لوجب فتحها في «حم»‏.‏ ولا يصح أن يقال‏:‏ إن فتح الميم هو فتحة همزة «الله» نقلت إلى الميم لأن تلك الهمزة همزة وصل تسقط في الدرج وتسقط معها حركتها، ولو جاز نقل حركتها لجاز إثباتها وإثباتها غير جائز‏.‏ وأسكن يزيد والأعشى الميم وقطعا الألف، والباقون بوصل الألف وفتح الميم و«الله» مبتدأ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ خبره وخبر «لا» مضمر والتقدير‏:‏ لا إله في الوجود إلا هو، «وهو» في موضع الرفع بدل من موضع «لا»، واسمه ‏{‏الحي القيوم‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو الحي، أو بدل من «هو» و«القيوم» فيعول من قام وهو القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ أي هو نزل ‏{‏عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏بالحق‏}‏ حال أي نزله حقاً ثابتاً ‏{‏مُصَدِّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ لما قبله ‏{‏وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل‏}‏ هما اسمان أعجميان وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل، ووزنهما بتفعلة وافعيل إنما يصح بعد كونهما عربيين‏.‏ وإنما قيل «نزل الكتاب» و«أنزل التوراة والإنجيل» لأن القرآن نزل منجماً ونزل الكتابان جملة ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل القرآن ‏{‏هُدًى لّلنَّاسِ‏}‏ لقوم موسى وعيسى أو لجميع الناس ‏{‏وَأَنزَلَ الفرقان‏}‏ أي جنس الكتب لأن الكل يفرق بين الحق والباطل، أو الزبور، أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له تفخيماً لشأنه ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله‏}‏ من كتبه المنزلة وغيرها ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام‏}‏ ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها منتقم ‏{‏إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء‏}‏ أي في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض أي هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن وهو مجازيهم عليه ‏{‏هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ‏}‏ من الصور المختلفة ‏{‏لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز‏}‏ في سلطانه ‏{‏الحكيم‏}‏ في تدبيره‏.‏ روي أنه لما قدم وفد بني نجران وهم ستون راكباً‏.‏ أميرهم العاقب وعمدتهم السيد وأسقفهم وحبرهم أبو حارثة خاصموا في أن عيسى إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ ألم تعلموا أن الله تعالى حي لا يموت وعيسى يموت، وأن ربنا قيم على العباد يحفظهم ويرزقهم وعيسى لا يقدر على ذلك، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعيسى لا يعلم إلا ما علم، وإنه صور عيسى في الرحم كيف شاء فحملته أمه ووضعته وأرضعته، وكان يأكل ويحدث وربنا منزه عن ذلك كله ‏"‏

فانقطعوا فنزل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية‏.‏

‏{‏هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏مِنْهُ‏}‏ من الكتاب ‏{‏آيات محكمات‏}‏ أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه ‏{‏هُنَّ أُمُّ الكتاب‏}‏ أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها ‏{‏وَأُخَّرُ‏}‏ وآيات أخر ‏{‏متشابهات‏}‏ مشتبهات محتملات‏.‏ مثال ذلك ‏{‏الرحمن عَلَى العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ فالاستواء يكون بمعنى الجلوس وبمعنى القدرة والاستيلاء، ولا يجوز الأول على الله تعالى بدليل المحكم وهو قوله ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ أو المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله نحو قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ الآيات، ‏{‏وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه‏}‏ ‏[‏الأسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ الآيات‏.‏ والمتشابه ما وراءه أو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وما احتمل أوجهاً، أو ما يعلم تأويله وما لا يعلم تأويله، أو الناسخ الذي يعمل به والمنسوخ الذي لا يعمل به‏.‏ وإنما لم يكن كل القرآن محكماً لما في المتشابه من الابتلاء به والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم والقرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله تعالى‏.‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏}‏ ميل عن الحق وهم أهل البدع ‏{‏فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه‏}‏ فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق ‏{‏مِنْهُ ابتغاء الفتنة‏}‏ طلب أن يفتتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ‏{‏وابتغاء تَأْوِيلِهِ‏}‏ وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله‏}‏ أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله ‏{‏والراسخون فِي العلم‏}‏ والذين رسخوا أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع مستأنف عند الجمهور، والوقف عندهم على قوله «إلا الله» وفسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه، وهو مبتدأ عندهم والخبر يقولون «آمنّا به» وهو ثناء منه تعالى عليهم بالإيمان على التسليم واعتقاد الحقية بلا تكييف، وفائدة إنزال المتشابه الإيمان به، واعتقاد حقية ما أراد الله به، ومعرفة قصور أفهام البشر عن الوقوف على ما لم يجعل لهم إليه سبيلاً، ويعضده قراءة أبي «ويقول الراسخون» وعبد الله «إن تأويله إلا عند الله»‏.‏ ومنهم من لا يقف عليه ويقول بأن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه و«يقولون» كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به أي بالمتشابه أو بالكتاب ‏{‏كُلٌّ‏}‏ من متشابهه ومحكمه ‏{‏مِّنْ عِندِ رَبّنَا‏}‏ من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ‏}‏ وما يتعظ وأصله يتذكر ‏{‏إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب‏}‏ أصحاب العقول، وهو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل‏.‏ وقيل‏:‏ «يقولون» حال من الراسخين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 20‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ‏(‏10‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏11‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏12‏)‏ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏13‏)‏ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ‏(‏14‏)‏ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ‏(‏17‏)‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا‏}‏ لا تملها عن الحق بخلق الميل في القلوب ‏{‏بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا‏}‏ للعمل بالمحكم والتسليم للمتشابه ‏{‏وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً‏}‏ من عندك نعمة بالتوفيق والتثبيت ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ الوهاب‏}‏ كثير الهبة، والآية من مقول الراسخين ويحتمل الاستئناف أي قولوها وكذلك التي بعدها وهي ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ‏}‏ أي تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ لا شك في وقوعه ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد‏}‏ الموعد‏.‏ والمعنى أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك «إن الجواد لا يخيب سائله» أي لا يخلف ما وعد المسلمين والكافرين من الثواب والعقاب‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ برسول الله ‏{‏لَن تُغْنِيَ‏}‏ تنفع أو تدفع ‏{‏عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله‏}‏ من عذابه ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من الأشياء ‏{‏وأولئك هُمْ وَقُودُ النار‏}‏ حطبها ‏{‏كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ الدأب مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله‏.‏ والكاف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء الكفرة في تكذيب الحق كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم، أو منصوب المحل ب «لن تغني أي لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك‏.‏ «كداب» بلا همز حيث كان‏:‏ أبو عمرو‏.‏ ‏{‏كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ تفسير لدأبهم مما فعلوا، أو فعل بهم على أنه جواب سؤال مقدر عن حالهم، ويجوز أن يكون حالاً أي قد كذبوا ‏{‏فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ بسبب ذنوبهم يقال أخذته بكذا أي جازيته عليه ‏{‏والله شَدِيدُ العقاب‏}‏ شديد عقابه فالإضافة غير محضة ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ هم مشركو مكة ‏{‏سَتُغْلَبُونَ‏}‏ يوم بدر ‏{‏وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ‏}‏ من الجهنام وهي بئر عميقة‏.‏ وبالياء فيهما‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏وَبِئْسَ المهاد‏}‏ المستقر جهنم‏.‏

‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ‏}‏ الخطاب لمشركي قريش ‏{‏فِي فِئَتَيْنِ التقتا‏}‏ يوم بدر ‏{‏فِئَةٌ تقاتل فِي سَبِيلِ الله‏}‏ وهم المؤمنون ‏{‏وأخرى‏}‏ وفئة أخرى ‏{‏كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ‏}‏ يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين ألفين، أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم‏.‏ «ترونهم» نافع أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة، أو مثلي أنفسهم‏.‏ ولا يناقض هذا ما قال في سورة الأنفال ‏{‏وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 44‏]‏ لأنهم قللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم، فلما اجتمعوا كثروا في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالتين مختلفتين ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ‏}‏

‏[‏الرحمن‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْؤولُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية‏.‏ و«مثليهم» نصب على الحال لأنه من رؤية العين بدليل قوله ‏{‏رَأْيَ العين‏}‏ يعني رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها ‏{‏والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ‏}‏ كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في أعين العدو ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ في تكثير القليل ‏{‏لَعِبْرَةً‏}‏ لعظة ‏{‏لأُوْلِي الأبصار‏}‏ لذوي البصائر‏.‏

‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ‏}‏ المزين هو الله عند الجمهور للابتلاء كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏‏.‏ دليله قراءة مجاهد «زين للناس» على تسمية الفاعل‏.‏ وعن الحسن‏:‏ الشيطان ‏{‏حُبُّ الشهوات‏}‏ الشهوة توقان النفس إلى الشيء، جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة، أو كأنه أراد تخسيسها بتسميتها شهوات إذ الشهوة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية ‏{‏مِّنَ النساء‏}‏ والإماء داخلة فيها ‏{‏والبنين‏}‏ جمع ابن وقد يقع في غير هذا الموضع على الذكور والإناث، وهنا أريد به الذكور فهم المشتهون في الطباع والمعدون للدفاع ‏{‏والقناطير‏}‏ جمع قنطار وهو المال الكثير‏.‏ قيل‏:‏ ملء مسك ثور أو مائة ألف دينار، ولقد جاء الإسلام وبمكة مائة رجل قد قنطروا ‏{‏المقنطرة‏}‏ المنضدة أو المدفونة ‏{‏مِنَ الذهب والفضة‏}‏ سمي ذهباً لسرعة ذهابه بالإنفاق، وفضة لأنها تتفرق بالإنفاق والفض التفريق ‏{‏والخيل‏}‏ سميت به لاختيالها في مشيها ‏{‏المسومة‏}‏ المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها ‏{‏والأنعام‏}‏ هي الأزواج الثمانية ‏{‏والحرث‏}‏ الزرع ‏{‏ذلك‏}‏ المذكور ‏{‏مَّتَاعُ الحياة الدنيا‏}‏ يتمتع به في الدنيا ‏{‏والله عِندَهُ حُسْنُ المأب‏}‏ المرجع‏.‏

ثم زهدهم في الدنيا فقال ‏{‏قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم‏}‏ من الذي تقدم ‏{‏لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات‏}‏ كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم، ف «جَنات» مبتدأ «لَلذين اتقوا» خبره ‏{‏تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ صفة ل «جنات»، ويجوز أن يتعلق اللام ب «خير» واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به‏.‏ ويرتفع «جنات» على هو جنات وتنصره قراءة من قرأ «جناتٍ» بالجر على البدل من «خير» ‏{‏خالدين فِيهَا وأزواج مُّطَهَّرَةٌ ورضوان مّنَ الله‏}‏ أي رضا الله ‏{‏والله بَصِيرٌ بالعباد‏}‏ عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم فلذا أعد لهم الجنات‏.‏

‏{‏الذين يَقُولُونَ‏}‏ نصب على المدح أو رفع أو جر صفة للمتقين أو للعباد ‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا‏}‏ إجابة لدعوتك ‏{‏فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ إنجازاً لوعدك ‏{‏وَقِنَا عَذَابَ النار‏}‏ بفضلك ‏{‏الصابرين‏}‏ على الطاعات والمصائب وهو نصب على المدح ‏{‏والصادقين‏}‏ قولاً بإخبار الحق، وفعلاً بإحكام العمل، ونية بإمضاء العزم ‏{‏والقانتين‏}‏ الداعين أو المطيعين ‏{‏والمنفقين‏}‏ المتصدقين ‏{‏والمستغفرين بالأسحار‏}‏ المصلين أو طالبين المغفرة، وخص الأسحار لأنه وقت إجابة الدعاء، ولأنه وقت الخلوة‏.‏

قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني لا يكن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم‏.‏ والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها، وللإشعار بأن كل صفة مستقلة بالمدح‏.‏

‏{‏شَهِدَ الله‏}‏ أي حكم أو قال ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي بأنه ‏{‏لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة‏}‏ بما عاينوا من عظيم قدرته ‏{‏وَأُوْلُواْ العلم‏}‏ أي الأنبياء والعلماء ‏{‏قَائِمَاً بالقسط‏}‏ مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم‏.‏ وانتصابه على أنه حال مؤكدة من اسم الله تعالى أو من «هو»، وإنما جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ولو قلت «جاء زيد وعمرو راكباً» لم يجز لعدم الإلباس فإنك لو قلت «جاءني زيد وهند راكبا» جاز لتميزه بالذكورة أو على المدح‏.‏ وكرر ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ للتأكيد ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ رفع على الاستئناف أي هو العزيز وليس بوصف ل «هو» لأن الضمير لا يوصف يعني أنه العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي لا يعدل عن الحق ‏{‏إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام‏}‏ جملة مستأنفة‏.‏ وقرئ أن الدين على البدل من قوله أنه لا إله إلا هو أي شهد الله أن الدين عند الله الإسلام‏.‏ قال عليه السلام ‏"‏ من قرأ الآية عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة، ومن قال بعدها‏:‏ وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة يقول الله تعالى يوم القيامة‏:‏ إن لعبدي عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة ‏"‏ ‏{‏وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واختلافهم أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد فثلثت النصارى وقالت اليهود عزير بن الله ‏{‏إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم‏}‏ أنه الحق الذي لا محيد عنه ‏{‏بَغْياً بَيْنَهُمْ‏}‏ أي ما كان ذلك الاختلاف إلا حسداً بينهم وطلباً منهم للرياسة وحظوظ الدنيا واستتباع كل فريق ناساً لا شبهة في الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ هو اختلافهم في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام حيث آمن به بعض وكفر به بعض‏.‏ وقيل‏:‏ هم النصارى واختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله‏}‏ بحججه ودلائله ‏{‏فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏ سريع المجازاة ‏{‏فَإنْ حَاجُّوكَ‏}‏ فإن جادلوك في أن دين الله الإسلام والمراد بهم وفد بني نجران عند الجمهور ‏{‏فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ‏}‏ أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيها لغيره شريكاً بأن أعبده وأدعو إلهاً معه، يعني أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ونحوه‏:‏

‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏‏.‏ فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو اليقين الذي لا شك فيه فما معنى المحاجة فيه‏!‏ ‏{‏وَمَنِ اتبعن‏}‏ عطف على التاء في «أسلمت» أي أسلمت أنا ومن أتبعني وحسن للفاصل، ويجوز أن يكون الواو بمعنى «مع» فيكون مفعولاً معه‏.‏ «ومن اتبعني» في الحالين‏:‏ سهل ويعقوب وافق أبو عمرو في الوصل‏.‏ «وجهي»‏:‏ مدني وشامي وحفص والأعشى والبرجمي‏.‏ ‏{‏وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب‏}‏ من اليهود والنصارى ‏{‏والأميين‏}‏ والذين لا كتاب لهم من مشركي العرب ‏{‏ءَأَسْلَمْتُمْ‏}‏ بهمزتين‏:‏ كوفي، يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يقتضي حصول الإسلام فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم‏؟‏ وقيل‏:‏ لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الأمر أي أسلموا كقوله ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ أي انتهوا ‏{‏فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا‏}‏ فقد أصابوا الرشد حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى ‏{‏وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ‏}‏ أي لم يضروك فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى ‏{‏والله بَصِيرٌ بالعباد‏}‏ فيجازيهم على إسلامهم وكفرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 40‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏27‏)‏ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏28‏)‏ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏33‏)‏ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين‏}‏ هم أهل الكتاب رضوا بقتل آبائهم الأنبياء ‏{‏بِغَيْرِ حَقّ‏}‏ حال مؤكدة لأن قتل النبي لا يكون حقاً ‏{‏وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ‏}‏ «ويقاتلون»‏:‏ حمزة ‏{‏بالقسط‏}‏ بالعدل ‏{‏مِنَ الناس‏}‏ أي سوى الأنبياء‏.‏ قال عليه السلام ‏"‏ قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم ‏"‏ ‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ دخلت الفاء في خبر «إن» لتضمن اسمها معنى الجزاء كأنه قيل‏:‏ الذين يكفرون فبشرهم بعذاب أليم بمعنى من يكفر فبشرهم، وهذا لأن «إن» لا تغير معنى الابتداء فهي للتحقيق فكأن دخولها كلا دخول ولو كان مكانها «ليت» أو «لعل» لامتنع دخول الفاء ‏{‏أولئك الذين حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ أي ضاعت ‏{‏فِي الدنيا والآخرة‏}‏ فلهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ جمع لوقف رؤوس الآي وإلا فالواحد النكرة في النفي يعم‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب‏}‏ يريد أحبار اليهود وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة‏.‏ «ومن» للتبعيض أو للبيان ‏{‏يُدْعُونَ‏}‏ حال من «الذين» ‏{‏إلى كتاب الله‏}‏ أي التوراة أو القرآن ‏{‏لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ‏}‏ جعل حاكماً حيث كان سبباً للحكم أو ليحكم النبي‏.‏ روي أنه عليه السلام دخل مدراسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد‏:‏ على أي دين أنت‏؟‏ قال النبي عليه السلام‏:‏ ‏"‏ على ملة إبراهيم ‏"‏ قالا‏:‏ إن إبراهيم كان يهودياً‏.‏ قال لهما‏:‏ إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها فأبيا ‏{‏ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ‏}‏ استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب ‏{‏وَهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم ‏{‏ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات‏}‏ أي ذلك التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل وهي أربعون يوماً أو سبعة أيام و«ذلك» مبتدأ «وبأنهم» خبره ‏{‏وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ أي غرهم افتراؤهم على الله وهو قولهم «نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا بذنوبنا إلا مدة يسيرة»‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ‏}‏ فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ لا شك فيه ‏{‏وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ‏}‏ جزاء ما كسبت ‏{‏وَهُمْ‏}‏ يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس ‏{‏لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ بزيادة في سيئاتهم ونقصان في حسناتهم‏.‏

‏{‏قُلِ اللهم‏}‏ الميم عوض من «يا» ولذا لا يجتمعان، وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه، وفيه لام التعريف وبقطع همزته في «يا الله» وبالتفخيم ‏{‏مالك الملك‏}‏ تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون وهو نداء ثانٍ أي يا مالك الملك ‏{‏تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ‏}‏ تعطي من تشاء النصيب الذي قسمت له من الملك ‏{‏وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ‏}‏ أي تنزعه فالملك الأول عام والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل‏.‏ ‏"‏ روي أنه عليه السلام حين فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقالت اليهود والمنافقون‏:‏ هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ‏"‏ فنزلت ‏{‏وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ‏}‏ بالملك ‏{‏وَتُذِلُّ مَن تَشَاء‏}‏ بنزعه منه ‏{‏بِيَدِكَ الخير‏}‏ أي الخير والشر فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، أو لأن الكلام وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة فقال‏:‏ بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعداءك ‏{‏إِنَّكَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ولا يقدر على شيء أحد غيرك إلا بإقدارك‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالملك ملك العافية أو ملك القناعة‏.‏ قال عليه السلام ‏"‏ ملوك الجنة من أمتي القانعون بالقوت يوماً فيوماً ‏"‏ أو ملك قيام الليل‏.‏ وعن الشبلي‏:‏ الاستغناء بالمكون عن الكونين تعز بالمعرفة أو بالاستغناء بالمكون أو بالقناعة وتذل بأضدادها‏.‏ ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب بقوله ‏{‏تُولِجُ اليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي اليل‏}‏ فالإيلاج إدخال الشيء في الشيء وهو مجاز هنا أي تنقص من ساعات الليل وتزيد في النهار، وتنقص من ساعات النهار وتزيد في الليل ‏{‏وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت‏}‏ الحيوان من النطفة، أو الفرخ من البيضة، أو المؤمن من الكافر ‏{‏وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي‏}‏ النطفة من الإنسان، أو البيض من الدجاج، أو الكافر من المؤمن ‏{‏وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ لا يعرف الخلق عدده ومقداره وإن كان معلوماً عنده، ليدل على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم‏.‏ وفي بعض الكتب‏:‏ أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم‏.‏ وهو معنى قولهم عليه السلام ‏"‏ كما تكونوا يولى عليكم الحي من الميت والميت من الحي ‏"‏

بالتشديد حيث كان‏:‏ مدني وكوفي غير أبي بكر‏.‏

‏{‏لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ‏}‏ نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو لصداقة قبل الإسلام أو غير ذلك، وقد كرر ذلك في القرآن والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم في الإيمان‏.‏ ‏{‏مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ‏}‏ أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان ‏{‏إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة‏}‏ إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه أي إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان المعاداة ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ‏}‏ أي ذاته فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ أي مصيركم إليه والعذاب معد لديه وهو وعيد آخر‏.‏

‏{‏قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ‏}‏ من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى الله ‏{‏يَعْلَمْهُ الله‏}‏ ولم يخف عليه وهو أبلغ وعيد ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ استئناف وليس بمعطوف على جواب الشرط أي هو الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض فلا يخفى عليه سركم وعلنكم ‏{‏والله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ فيكون قادراً على عقوبتكم ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بعيداً‏}‏ «يوم» منصوب ب «تود» والضمير في «بينه» لليوم أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً أي مسافة بعيدة، أو ب «اذكر» ويقع «تجد» على «ما عملت» وحده ويرتفع «وما عملت» على الابتداء و«تود» خبره أي والذي عملته من سوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه، ولا يصح أن تكون «ما» شرطية لارتفاع «تود»، نعم الرفع جائز إذا كان الشرط ماضياً لكن الجزم هو الكثير‏.‏ وعن المبرد أن الرفع شاذ‏.‏ وكرر قوله ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ‏}‏ ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه ‏{‏والله رَءُوفٌ بالعباد‏}‏ ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه حتى لا يتعرضوا لسخطه، ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذوراً لكمال قدرته مرجو لسعة رحمته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 43‏]‏‏.‏ ونزل حين قال اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه‏.‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله‏}‏ محبة العبد لله إيثار طاعته على غير ذلك، ومحبة الله العبد أن يرضى عنه ويحمد فعله‏.‏ وعن الحسن‏:‏ زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب وكتاب الله يكذبه‏.‏

وقيل‏:‏ محبة الله معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به وبذكره ودوام الأنس به‏.‏ وقيل‏:‏ هي اتباع النبي عليه السلام في أقواله وأفعاله وأحواله إلا ما خص به‏.‏ وقيل‏:‏ علامة المحبة أن يكون دائم التفكير، كثير الخلوة، دائم الصمت، لا يبصر إذا نظر، ولا يسمع إذا نودي، ولا يحزن إذا أصيب، ولا يفرح إذا أصاب، ولا يخشى أحداً ولا يرجوه ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول‏}‏ قيل‏:‏ هي علامة المحبة ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ أعرضوا عن قبول الطاعة، ويحتمل أن يكون مضارعاً أي فإن تتولوا ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين‏}‏ أي لا يحبهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الله اصطفى‏}‏ اختار ‏{‏ءَادَمَ‏}‏ أبا البشر ‏{‏وَنُوحاً‏}‏ شيخ المرسلين ‏{‏وآلَ إبراهيم‏}‏ إسماعيل وإسحاق وأولادهما ‏{‏وآل عمران‏}‏ موسى وهارون هما ابنا عمران بن يصهر‏.‏ وقيل‏:‏ عيسى ومريم بنت عمران ابن ماثان وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة ‏{‏عَلَى العالمين‏}‏ على عالمي زمانهم ‏{‏ذُرِّيَّةَ‏}‏ بدل من «آل إبراهيم وآل عمران» ‏{‏بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ‏}‏ مبتدأ وخبره في موضع النصب صفة ل «ذرية» يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض‏:‏ موسى وهارون من عمران، وعمران من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوي، ولاوي من يعقوب، ويعقوب من إسحاق، وكذلك عيسى بن مريم بنت عمران بن ماثان وهو يتصل بيهودا بن يعقوب بن إسحاق، وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ بعضها من بعض في الدين ‏{‏والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ يعلم من يصلح للإصطفاء، أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها ‏{‏إِذْ قَالَتِ‏}‏ «وإذ» منصوب به أو بإضمار «اذكر»‏.‏ ‏{‏امرأت عمران‏}‏ هي امرأة عمران بن ماثان أم مريم جدة عيسى وهي حنة بنت فاقوذا ‏{‏رَبِّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ‏}‏ أوجبت ‏{‏مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا‏}‏ هو حال من «ما» وهي بمعنى الذي أي معتقاً لخدمة بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه، وكان هذا النوع من النذر مشروعاً عندهم أو مخلصاً للعبادة يقال «طين حر» أي خالص ‏{‏فَتَقَبَّلْ مِنّي‏}‏ «منّي» مدني وأبو عمر، والتقبل‏:‏ أخذ الشيء على الرضا به ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا‏}‏ الضمير ل «ما في بطني» وإنما أنّث على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة ‏{‏قَالَتْ رَبِّ إِنّي وَضَعْتُهَا أنثى‏}‏ «أنثى» حال من الضمير في «وضعتها» أي وضعت الحبلة أو النفس أو النسمة أنثى، وإنما قالت هذا القول لأن التحرير لم يكن إلا للغلمان فاعتذرت عما نذرت وتحزنت إلى ربها ولتكلمها بذلك على وجه التحزن والتحسر قال الله ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ‏}‏ تعظيماً لموضوعها أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عزائم الأمور‏.‏

«وضعتُ»‏:‏ شامي وأبو بكر بمعنى ولعل لله فيه سراً وحكمة، وعلى هذا يكون داخلاً في القول‏.‏ وعلى الأول يوقف عند قوله «أنثى» وقوله‏:‏ «والله أعلم بما وضعت»‏.‏ ابتداء إخبار من الله تعالى ‏{‏وَلَيْسَ الذكر‏}‏ الذي طلبت ‏{‏كالأنثى‏}‏ التي وهبت لها واللام فيهما للعهد ‏{‏وَإِنّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ‏}‏ معطوف على «إني وضعتها أنثى» وما بينهما جملتان معترضتان‏.‏ وإنما ذكرت حنة تسميتها مريم لربها لأن مريم في لغتهم العابدة، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها وأن يصدق فيها ظنها بها، ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان بقوله ‏{‏وَإِنّي‏}‏ «وإنّي» مدني ‏{‏أُعِيذُهَا بِكَ‏}‏ أجيرها ‏{‏وَذُرِّيَّتَهَا‏}‏ أولادها ‏{‏مِنَ الشيطان الرجيم‏}‏ الملعون في الحديث ‏"‏ ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها ‏"‏ ‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا‏}‏ قبل الله مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر ‏{‏بِقَبُولٍ حَسَنٍ‏}‏ قيل‏:‏ القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط لما يسعط به وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل قبلها أنثى في ذلك، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة‏.‏ روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم‏:‏ دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم فقال لهم زكريا‏:‏ أنا أحق بها، عندي أختها‏.‏ فقالوا‏:‏ لا حتى نقترع عليها‏.‏ فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها‏.‏ وقيل‏:‏ هو مصدر على تقدير حذف المضاف أي فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص ‏{‏وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا‏}‏ مجاز عن التربية الحسنة، قال ابن عطاء‏:‏ ما كانت ثمرته مثل عيسى فذاك أحسن النبات‏.‏ «ونباتاً» مصدر على خلاف الصدر أو التصدير فنبتت نباتاً ‏{‏وَكَفَّلَهَا‏}‏ «وكفلها»‏:‏ قبلها أو ضمن القيام بأمرها‏.‏ وكفّلها‏:‏ كوفي أي كفلها الله زكريا يعني جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها ‏{‏زَكَرِيَّا‏}‏ بالقصر‏:‏ كوفي غير أبي بكر في كل القرآن‏.‏ وقرأ أبو بكر بالمد والنصب هنا‏.‏ غيرهم بالمد والرفع كالثانية والثالثة ومعناه في العبري‏:‏ دائم الذكر والتسبيح ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب‏}‏ قيل‏:‏ بنى لها زكريا محراباً في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلم‏.‏

وقيل‏:‏ المحراب أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس‏.‏ وقيل‏:‏ كانت مساجدهم تسمى المحاريب وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده ‏{‏وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا‏}‏ كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثدياً قط فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ‏{‏قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا‏}‏ من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه‏؟‏ ‏{‏قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله‏}‏ فلا تستبعد‏.‏ قيل‏:‏ تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد ‏{‏إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ‏}‏ من جملة كلام مريم أو من كلام رب العالمين ‏{‏بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ بغير تقدير لكثرته أو تفضلاً بغير محاسبة ومجازاة على عمل‏.‏

‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت فقد يستعار «هنا» و«حيث» و«ثم» للزمان‏.‏ لما رأى حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها رغب أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أمها حنة في الكرامة على الله، وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أمها كذلك‏.‏ وقيل‏:‏ لما رأى الفاكهة في غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر ‏{‏دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً‏}‏ ولداً والذرية يقع على الواحد والجمع ‏{‏طَيِّبَةً‏}‏ مباركة والتأنيث للفظ الذرية ‏{‏إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء‏}‏ مجيبه ‏{‏فَنَادَتْهُ الملئكة‏}‏ قيل‏:‏ ناداه جبريل عليه السلام‏.‏ وإنما قيل «الملائكة» لأن المعنى أتاه النداء من هذا الجنس كقولهم «فلان يركب الخيل»‏.‏ «فناديه» بالياء والإمالة‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي المحراب‏}‏ وفيه دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات، وفيها إجابة الدعوات وقضاء الحاجات‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب ‏{‏إِنَّ الله‏}‏ بكسر الألف‏:‏ شامي وحمزة وعلى إضمار القول، أو لأن النداء قول‏.‏ الباقون‏:‏ بالفتح أي بأن الله ‏{‏يُبَشّرُكَ‏}‏ «يبشرك» وما بعده‏:‏ حمزة وعلي من بشره والتخفيف والتشديد لغتان ‏{‏بيحيى‏}‏ هو غير منصرف إن كان عجمياً وهو الظاهر فللتعريف والعجمة كموسى وعيسى، وإن كان عربياً فللتعريف ووزن الفعل ك «يعمر» ‏{‏مُصَدِّقاً‏}‏ حال منه ‏{‏بِكَلِمَةٍ مّنَ الله‏}‏ أي مصدقاً بعيسى مؤمناً به فهو أول من آمن به‏.‏ وسمي عيسى كلمة الله لأن تكون ب «كن» بلا أب، أو مصدقاً بكلمة من الله مؤمناً بكتاب منه ‏{‏وَسَيّدًا‏}‏ هو الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف، وكان يحيى فائقاً على قومه لأنه لم يركب سيئة قط ويا لها من سيادة‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ هو الذي جاد بالكونين عوضاً عن المكون ‏{‏وَحَصُورًا‏}‏ هو الذي لا يقرب النساء مع القدرة حصراً لنفسه أي منعاً لها من الشهوات ‏{‏وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين‏}‏ ناشئاً من الصالحين لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين ‏{‏قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غلام‏}‏ استبعاد من حيث العادة واستعظام للقدرة لا تشكك ‏{‏وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر‏}‏ كقولهم «أدركته السن العالية» أي أثر فيَّ الكبر وأضعفني وكان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعون ‏{‏وامرأتي عَاقِرٌ‏}‏ لم تلد ‏{‏قَالَ كذلك الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏}‏ من الأفعال العجيبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 57‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏41‏)‏ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجعل لِّي‏}‏ «لِي» مدني وأبو عمرو ‏{‏ءَايَةً‏}‏ علامة أعرف بها الحبل لأتلقى النعمة بالشكر إذا جاءت ‏{‏قَالَ آيتُكَ ألاَّ تُكَلِّمَ الناس‏}‏ أي لا تقدر على تكليم الناس ‏{‏ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا‏}‏ إلا إشارة بيد أو رأس أوعين أو حاجب وأصله التحرك، يقال ارتمز إذا تحرك‏.‏ واستثنى الرمز وهو ليس من جنس الكلام لأنه لما أدّى مؤدّى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاماً، أو هو استثناء منقطع‏.‏ وإنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة عن تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ولذا قال ‏{‏واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بالعشي والإبكار‏}‏ أي في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة والأدلة الظاهرة، وإنما حبس لسانه عن كلام الناس ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له‏:‏ آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر، وأحسن الجواب ما كان منتزعاً من السؤال‏.‏ والعشي من حين الزوال إلى الغروب، والإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى‏.‏

‏{‏وَإِذْ‏}‏ عطف على «إذ قالت امرأة عمران» أو التقدير واذكر إذا ‏{‏قَالَتِ الملئكة يامريم‏}‏ روي أنهم كلموها شفاها ‏{‏إِنَّ الله اصطفاك‏}‏ أولاً حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية ‏{‏وَطَهَّرَكِ‏}‏ مما يستقذر من الأفعال ‏{‏واصطفاك‏}‏ آخراً ‏{‏على نِسَاء العالمين‏}‏ بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء ‏{‏يامريم اقنتي لِرَبِّكِ‏}‏ أديمي الطاعة أو أطيلي قيام الصلاة ‏{‏واسجدي‏}‏ وقيل‏:‏ أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة، ثم قيل لها ‏{‏واركعي مَعَ الركعين‏}‏ أي ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة، أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما سبق من قصة حنة وزكريا ويحيى ومريم ‏{‏مِنْ أَنبَاءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ‏}‏ يعني أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي ‏{‏وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم‏}‏ أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين، أو هي الأقلام التي كانوا يكتبون التوراة بها اختاروها للقرعة تبركاً بها ‏{‏أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ‏}‏ متعلق بمحذوف دل عليه «يلقون» كأنه قيل‏:‏ يلقونها ينظرون أيهم يَكفل مريم أو ليعلموا أو يقولون ‏{‏وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ في شأنها تنافساً في التكفل بها ‏{‏إِذْ قَالَتِ الملائكة‏}‏ أي اذكر ‏{‏يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ‏}‏ أي بعيسى ‏{‏مِّنْهُ‏}‏ في موضع جر صفة لكلمة ‏{‏اسمه‏}‏ مبتدأ وذكر ضمير الكلمة لأن المسمى بها مذكر ‏{‏المسيح‏}‏ خبره والجملة في موضع جر صفة ل «كلمة»‏.‏

والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله «مشيحاً» بالعبرانية ومعناه المبارك كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ سمي مسيحاً لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ، أو لأنه كان يمسح الأرض بالسياحة لا يستوطن مكاناً ‏{‏عِيسَى‏}‏ بدل من المسيح ‏{‏ابن مَرْيَمَ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو ابن مريم، ولا يجوز أن يكون صفة لعيسى لأن اسمه عيسى فحسب وليس اسمه عيسى ابن مريم‏.‏ وإنما قال «ابن مريم» إعلاماً لها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه «وَجِيهاً» ذا جاه وقدر «في الدُّنيا» بالنبوة والطاعة ‏{‏والآخرة‏}‏ بعلو الدرجة والشفاعة ‏{‏وَمِنَ المقربين‏}‏ برفعه إلى السماء، وقوله «وجيهاً» حال من «كلمة» لكونها موصوفة وكذا «ومن المقربين» أي وثابتاً من المقربين، وكذا «ويكَلِّمُ النّاسَ» أي ومكلماً الناس في المهد حال من الضمير في «يكلم» أي ثابتاً في المهد وهو ما يمهد للصبي من مضجعه سمي بالمصدر ‏{‏وَكَهْلاً‏}‏ عطف عليه أي ويكلم الناس طفلاً وكهلاً أي يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحالة الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء ‏{‏وَمِنَ الصالحين‏}‏ حال أيضاً والتقدير يبشرك به موصوفاً بهذه الصفات‏.‏

‏{‏قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يقول له كن فيكون‏}‏ أي إذا قدر تكون شيء كونه من غير تأخير لكنه عبر بقوله «كن» إخباراً عن سرعة تكون الأشياء بتكوينه ‏{‏وَيُعَلِّمُهُ‏}‏ مدني وعاصم وموضعه حال معطوفة على «وجيهاً»‏.‏ الباقون‏:‏ بالنون على أنه كلام مبتدأ ‏{‏الكتابَ‏}‏ أي الكتابة وكان أحسن الناس خطاً في زمانه‏.‏ وقيل‏:‏ كتب الله ‏{‏والحكمَةَ‏}‏ بيان الحلال والحرام أو الكتاب الخط باليد‏.‏ والحكمة‏:‏ البيان باللسان ‏{‏والتوراة والإنجيل * وَرَسُولاً‏}‏ أي ونجعله رسولاً أو يكون في موضع الحال أي وجيهاً في الدنيا والآخرة ورسولاً ‏{‏إلى بَنِي إسراءيل أَنّي‏}‏ بأني ‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ بدلالة تدل على صدقي فيما أدعيه من النبوة ‏{‏أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ‏}‏ نصب بدل من «أني قد جئتكم» أو جر بدل من «آية» أو رفع على «هي أني أخلق لكم»‏.‏ «ِإنِّيَ»‏:‏ نافع على الاستئناف ‏{‏مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير‏}‏ أي أقدر لكم شيئاً مثل صورة الطير ‏{‏فَأَنفُخُ فِيهِ‏}‏ الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير ‏{‏فَيَكُونُ طَيْرًا‏}‏ فيصير طيراً كسائر الطيور‏.‏ «طائراً»‏:‏ مدني ‏{‏بِإِذُنِ الله‏}‏ بأمره‏.‏ قيل‏:‏ لم يخلق شيئاً غير الخفاش ‏{‏وَأُبْرِئ الأكمه‏}‏ الذي ولد أعمى ‏{‏والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله‏}‏ كرر «بإذن الله» دفعاً لو هم من يتوهم فيه اللاهوتية‏.‏

روي أنه أحيا سام بن نوح عليه السلام وهم ينظرون إليه فقالوا‏:‏ هذا سحر مبين فأرنا آية فقال‏:‏ يا فلان أكلت كذا ويا فلان خبئ لك كذا وهو قوله ‏{‏وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ‏}‏ و«ما» فيهما بمعنى «الذي»، أو مصدرية ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ فيما سبق ‏{‏لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة‏}‏ أي قد جئتكم بآية وجئتكم مصدقاً ‏{‏وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ رد على قوله «بآية من ربكم» أي جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم‏.‏ وما حرم الله عليهم في شريعة موسى عليه السلام الشحوم ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر فأحل لهم عيسى بعض ذلك ‏{‏وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ كرر للتأكيد ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ في تكذيبي وخلافي ‏{‏وَأَطِيعُونِ‏}‏ في أمري ‏{‏إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ‏}‏ إقرار بالعبودية ونفي للربوبية عن نفسه بخلاف ما يزعم النصارى ‏{‏فاعبدوه‏}‏ دوني ‏{‏هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ يؤدي صاحبه إلى النعيم المقيم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر‏}‏ علم من اليهود كفراً علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ‏{‏قَالَ مَنْ أَنصَارِي‏}‏ «أنصاري» مدني وهو جمع ناصر كأصحاب أو جمع نصير كأشراف ‏{‏إِلَى الله‏}‏ يتعلق بمحذوف حال من الياء أي من أنصاري ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه ‏{‏قَالَ الحواريون‏}‏ حواريّ الرجل صفوته وخاصته ‏{‏نَحْنُ أَنْصَارُ الله‏}‏ أعوان دينه ‏{‏آمنا بالله واشهد‏}‏ يا عيسى ‏{‏بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ إنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيداً لإيمانهم لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم، وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد ‏{‏رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول‏}‏ أي رسولك عيسى ‏{‏فاكتبنا مَعَ الشاهدين‏}‏ مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، أو مع الذين يشهدون لك بالوحدانية، أو مع أمة محمد عليه السلام لأنهم شهداء على الناس ‏{‏وَمَكَرُواْ‏}‏ أي كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر حين أرادوا قتله وصلبه ‏{‏وَمَكَرَ الله‏}‏ أي جازاهم على مكرهم بأن رفع عيسى إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل، ولا يجوز إضافة المكر إلى الله تعالى إلا على معنى الجزاء، لأنه مذموم عند الخلق وعلى هذا الخداع والاستهزاء كذا في شرح التأويلات‏.‏ ‏{‏والله خَيْرُ الماكرين‏}‏ أقوى المجازين وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب ‏{‏إِذْ قَالَ الله‏}‏ ظرف لمكر الله ‏{‏ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ‏}‏ أي مستوفي أجلك ومعناه أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم ‏{‏وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}‏ إلى سمائي ومقر ملائكتي ‏{‏وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ من سوء جوارهم وخبث صحبتهم‏.‏

وقيل‏:‏ متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته، أو مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن، إذ الواو لا توجب الترتيب‏.‏ قال النبي عليه السلام «ينزل عيسى خليفة على أمتي يدق الصليب ويقتل الخنازير ويلبث أربعين سنة، ويتزوج ويولد له ثم يتوفى وكيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها والمهدي من أهل بيتي وفي وسطها» أو متوفي نفسك بالنوم ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب ‏{‏وَجَاعِلُ الذين اتبعوك‏}‏ أي المسلمين لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى ‏{‏فَوْقَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بك ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ‏{‏ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ في الآخرة ‏{‏فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مّن ناصرين * وَأَمَّا الذين ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ وتفسير الحكم هاتان الآيتان فيوفيهم حفص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 69‏]‏

‏{‏ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره وهو مبتدأ ‏{‏نَتْلُوهُ عَلَيْكَ‏}‏ خبره ‏{‏مِنَ الأيات‏}‏ خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ‏{‏والذكر الحكيم‏}‏ القرآن يعني المحكم، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه‏.‏ ونزل لما قال وفد بني نجران هل رأيت ولداً بلا أب‏.‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ‏}‏ أي إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم عليه السلام ‏{‏خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ‏}‏ قدره جسداً من طين وهي جملة مفسرة لحالة شبه عيسى بآدم ولا موضع لها أي خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم، فكذلك حال عيسى مع أن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه، وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم‏:‏ لم تعبدون عيسى‏؟‏ قالوا‏:‏ لأنه لا أب له قال‏:‏ فآدم أولى لأنه لا أبوين له‏.‏ قالوا‏:‏ كان يحيي الموتى‏.‏ قال‏:‏ فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وحزقيل ثمانية آلاف‏.‏ فقالوا‏:‏ كان يبرئ الأكمه والأبرص‏.‏ قال‏:‏ فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً ‏{‏ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن‏}‏ أي أنشأه بشراً ‏{‏فَيَكُونُ‏}‏ أي فكان وهو حكاية حال ماضية، و«ثم» لترتيب الخبر على الخبر لا لترتيب المخبر عنه ‏{‏الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ‏{‏فَلاَ تَكُن‏}‏ أيها السامع ‏{‏مِنَ الممترين‏}‏ الشاكين‏.‏ ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون من باب التهييج لزيادة الثبات لأنه عليه السلام معصوم من الامتراء ‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ‏}‏ من النصارى ‏{‏فِيهِ‏}‏ في عيسى ‏{‏مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم‏}‏ من البينات الموجبة للعلم و«ما» بمعنى «الذي» ‏{‏فَقُلْ تَعَالَوْاْ‏}‏ هلموا والمراد المجيء بالعزم والرأي كما تقول‏:‏ تعالى نفكر في هذه المسألة ‏{‏نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ‏}‏ أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة ‏{‏ثُمَّ نَبْتَهِلْ‏}‏ ثم نتباهل بأن نقول «بهلة الله على الكاذب منا ومنكم»‏.‏ والبهلة بالفتح والضم اللعنة، وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته، وأصل الابتهال هذا ثم يستعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً‏.‏ روي أنه عليه السلام لما دعاهم إلى المباهلة قالوا‏:‏ حتى ننظر‏.‏ فقال العاقب‏.‏ وكان ذا رأيهم- والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل وما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن، فإن أبيتم إلا ألف دينكم فودعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم‏.‏

فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضناً للحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول‏:‏ ‏"‏ إذا أنا دعوت فأمنوا ‏"‏ فقال أسقف نجران‏:‏ يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك فصالحهم النبي على ألفي حلة كل سنة فقال عليه السلام ‏"‏ والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ‏"‏ وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كانت المباهلة مختصة به وبمن يكاذبه لأن ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة‏.‏ وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم، وفيه دليل واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق أو مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك ‏{‏فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين‏}‏ منا ومنكم في شأن عيسى ونبتهل ونجعل معطوفان على «ندع»‏.‏

‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ الذي قص عليك من نبأ عيسى ‏{‏لَهُوَ القصص الحق‏}‏ هو فصل بين اسم «إن» وخبرها، أو مبتدأ و«القصص الحق» خبره، والجملة خبر «إن» وجاز دخول اللام على الفصل لأنه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ منه، وأصلها أن تدخل على المبتدأ‏.‏ و«من» في ‏{‏وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله‏}‏ بمنزلة البناء على الفتح في «لا إله إلا الله» في إفادة معنى الاستغراق، والمراد الرد على النصارى في تثليثهم ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز‏}‏ في الانتقام ‏{‏الحكيم‏}‏ في تدبير الأحكام ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ أعرضوا ولم يقبلوا ‏{‏فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين‏}‏ وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏‏.‏

‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب‏}‏ هم أهل الكتابين أو وفد نجران أو يهود المدينة ‏{‏تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء‏}‏ أي مستوية ‏{‏بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل‏.‏ وتفسير الكلمة قوله ‏{‏أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله‏}‏ يعني تعالوا إليها حتى لا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله، لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا، ولا نطيع أحبارنا فميا أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله‏.‏

وعن عدي بن حاتم‏:‏ ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال ‏"‏ أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ‏"‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ هو ذاك ‏"‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ عن التوحيد ‏{‏فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع‏:‏ اعترف بأني أنا الغالب وسلم إليّ الغلبة‏.‏ ‏{‏ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ‏}‏ زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فيه فقيل لهم‏:‏ إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة والنصرانية بعد نزول الإنجيل وبين إبراهيم وموسى ألف سنة وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة‏.‏

‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال‏.‏

‏{‏هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء‏}‏ «ها» للتنبيه و«أنتم» مبتدأ و«هؤلاء» خبره ‏{‏حاججتم‏}‏ جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى‏.‏ وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم ‏{‏فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ‏}‏ مما نطق به التوراة والإنجيل ‏{‏فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ هؤلاء بمعنى «الذين» و«حاججتم» صلته‏.‏ «ها أنتم» بالمد وغير الهمز حيث كان‏:‏ مدني وأبو عمرو‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ علم ما حاججتم فيه ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وأنتم جاهلون به‏.‏

ثم أعلمهم بأنه بريء من دينهم فقال ‏{‏مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين‏}‏ كأنه أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح، أو ما كان من المشركين كما لم يكن منهم ‏{‏إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم‏}‏ إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب ‏{‏لَلَّذِينَ اتبعوه‏}‏ في زمانه وبعده ‏{‏وهذا النبي‏}‏ خصوصاً خص بالذكر لخصوصيته بالفضل والمراد محمد عليه السلام ‏{‏والذين ءَامَنُواْ‏}‏ من أمته ‏{‏والله وَلِيُّ المؤمنين‏}‏ ناصرهم‏.‏ ‏{‏وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ‏}‏ هم اليهود دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهود ‏{‏وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ‏}‏ وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 82‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله‏}‏ بالتوراة والإنجيل، وكفرهم بها أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها ‏{‏وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ تعترفون بأنها آيات الله أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول وأنتم تشهدون نعته في الكتابين، أو تكفرون بآيات الله جميعاً وأنتم تعلمون أنها حق ‏{‏ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل‏}‏ تخلطون الإيمان بموسى وعيسى بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَتَكْتُمُونَ الحق‏}‏ نعت محمد عليه السلام ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنه حق ‏{‏وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ فيم بينهم ‏{‏ءامِنُواْ بالذى أُنزِلَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ‏}‏ أي القرآن ‏{‏وَجْهَ النهار‏}‏ ظرف أي أوله يعني أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أول النهار ‏{‏واكفروا ءاخِرَهُ‏}‏ واكفروا به آخره ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ لعل المسلمين يقولون ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم‏.‏

‏{‏وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله‏}‏ «ولا تؤمنوا» متعلق بقوله ‏{‏أن يؤتى أحدٌ مّثل ما أوتيتم‏}‏ وما بينهما اعتراض أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، أرادوا أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام ‏{‏أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ عطف على «أن يؤتى» والضمير في «يحاجوكم» لأحد لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير اتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة‏.‏ ومعنى الاعتراض أن الهدى هدى الله من شاء هداه حتى أسلم أو ثبت على الإسلام كان ذلك ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، وكذلك قوله ‏{‏قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ‏}‏ يريد الهداية والتوفيق، أو يتم الكلام عند قوله «إلا لمن تبع دينكم» أي ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم‏.‏ ومعنى قوله «أن يؤتى» لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه لا لشيء آخر يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يأتي أحد مثل ما أوتيتم من العلم، والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، ويدل عليه قراءة ابن كثير «آن» بالمد والاستفهام يعني الآن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب تحسدونهم‏.‏ وقوله «أو يحاجوكم» على هذا معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو لما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم ‏{‏والله واسع‏}‏ أي واسع الرحمة ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بالمصلحة ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ‏}‏ بالنبوة أو بالإسلام ‏{‏مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم * وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ‏}‏ هو عبد الله بن سلام، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأداه إليه ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ هو فنحاص بن عازوراء، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه‏.‏

وقال‏:‏ المأمونون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم ‏{‏إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا‏}‏ إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه ملازماً له‏.‏ «يؤده» و«لا يؤده» بكسر الهاء مشبعة‏:‏ مكي وشامي ونافع وعلي وحفص، واختلس أبو عمرو في رواية‏.‏ غيرهم‏:‏ بسكون الهاء‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ترك الأداء الذي دل عليه «لا يؤده» ‏{‏بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ‏}‏ أي تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم «ليس علينا من الأميين سبيل» أي لا يتطرق علينا إثم وذم في شأن الأميين يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب، وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم لأنهم ليسوا على ديننا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم وكانوا يقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة‏.‏ وقيل‏:‏ بايع اليهود رجالاً من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا‏:‏ ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ‏{‏وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب‏}‏ بادعائهم أن ذلك في كتابهم ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنهم كاذبون ‏{‏بلى‏}‏ إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين أي بلى عليهم سبيل فيهم‏.‏ وقوله ‏{‏مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى‏}‏ جملة مسأنفة مقررة للجملة التي سدت «بلى» مسدها، والضمير في «بعده» يرجع إلى الله تعالى أي كل من أوفى بعهد الله واتقاه ‏{‏فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين‏}‏ أي يحبهم فوضع الظاهر موضع الضمير وعموم المتقين قام مقام الضمير الراجع من الجزاء إلى «من» ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في عبد الله بن سلام ونحوه من مسلمي أهل الكتاب، ويجوز أن يرجع الضمير إلى «من أوفى» أي كل من أوفى بما عاهد الله عليه واتقى الله في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه‏.‏ ونزل فيمن حرّف التوراة وبدل نعته عليه السلام من اليهود وأخذ الرشوة على ذلك ‏{‏إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ‏}‏ يستبدلون ‏{‏بِعَهْدِ الله‏}‏ بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم ‏{‏وأيمانهم‏}‏ وبما حلفوا به من قولهم «والله لنؤمنن به ولننصرنه» ‏{‏ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك، وقوله «بعهد الله» يقوي رجوع الضمير في «بعهده» إلى الله ‏{‏أولئك لاَ خلاق لَهُمْ فِى الآخرة‏}‏ أي لا نصيب ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله‏}‏ بما يسرهم ‏{‏وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ نظر رحمة ‏{‏وَلاَ يُزَكّيهِمْ‏}‏ ولا يثني عليهم ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ مؤلم‏.‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ‏}‏ من أهل الكتاب ‏{‏لَفَرِيقًا‏}‏ هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وغيرهم ‏{‏يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب‏}‏ يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف، واللّيُ الفتل وهو الصرف والمراد تحريفهم كآبة الرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك‏.‏ والضمير في ‏{‏لِتَحْسَبُوهُ‏}‏ يرجع إلى ما دل عليه «يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب» وهو المحرف، ويجوز أن يراد يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه ‏{‏مّنَ الكتاب‏}‏ أي التوراة ‏{‏وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب‏}‏ وليس هو من التوراة ‏{‏وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ‏}‏ تأكيد لقوله «وما هو من الكتاب» وزيادة تشنيع عليهم ‏{‏وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنهم كاذبون ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الكتاب‏}‏ تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ‏"‏ ‏{‏والحكم‏}‏ والحكمة وهي السنة أو فصل القضاء ‏{‏والنبوة ثُمَّ يَقُولَ‏}‏ عطف على «يؤتيه» ‏{‏لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله ولكن كُونُواْ ربانيين‏}‏ ولكن يقول‏:‏ كونوا ربانيين‏.‏ والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون وهو شديد التمسك بدين الله وطاعته‏.‏ وحين مات ابن عباس قال ابن الحنفية‏:‏ مات رباني هذه الأمة‏.‏ وعن الحسن‏:‏ ربانيين علماء فقهاء‏.‏ وقيل‏:‏ علماء معلمين‏.‏ وقالوا‏:‏ الرباني العالم العامل ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب‏}‏ كوفي وشامي أي غيركم غيرهم بالتخفيف ‏{‏وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ‏}‏ أي تقرأون، والمعنى بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم كانت الربانية التي هي قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة، وكفى به دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكد روحه في جمع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان كمن غرس شجرة حسناء تؤنقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها‏.‏ وقيل‏:‏ معنى «تدرسون» تدرسونه على الناس كقوله ‏{‏لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏ فيكون معناه معنى تدرسون من التدريس كقراءة ابن جبير‏.‏

‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ‏}‏ بالنصب عطفاً على «ثم يقول» ووجهه أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله «ما كان لبشر» والمعنى ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له ويأمركم ‏{‏أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا‏}‏ كما تقول «ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي»وبالرفع حجازي وأبو عمرو وعليّ على ابتداء الكلام، والهمزة في ‏{‏أَيَأْمُرُكُم بالكفر‏}‏ للإنكار والضمير في «لا يأمركم» و«أيأمركم» للبشر أو لله‏.‏

وقوله ‏{‏بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ يدل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له‏.‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين‏}‏ هو على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك، أو المراد ميثاق الأولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف‏.‏ واللام في ‏{‏لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ‏}‏ لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف، وفي «لتؤمنن» لام جواب القسم، وما يجوز أن تكون متضمنة لمعنى الشرط و«لتؤمنن» ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً، وأن تكون موصولة بمعنى للذي آتيتكموه لتؤمنن به ‏{‏ثُمَّ جَاءكُمْ‏}‏ معطوف على الصلة والعائد منه إلى ما محذوف والتقدير ثم جاءكم به ‏{‏رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لّمَا مَعَكُمْ‏}‏ للكتاب الذي معكم ‏{‏لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ‏}‏ بالرسول ‏{‏وَلَتَنصُرُنَّهُ‏}‏ أي الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم «لما آتيتكم» حمزة و«ما» بمعنى الذي، أو مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم‏.‏ واللام للتعليل أي أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه لأجل أني آتيتكم الحكمة، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف‏.‏ «آتيناكم»‏:‏ مدني ‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله ‏{‏أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى‏}‏ أي قبلتم عهدي، وسمي إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد ‏{‏قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا‏}‏ فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ‏{‏وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين‏}‏ وأنا معكم على ذلك من إقراركم وتشاهدكم من الشاهدين، وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض‏.‏ وقيل‏:‏ قال الله للملائكة اشهدوا ‏{‏فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك‏}‏ الميثاق والتوكيد ونقض العهد بعد قبوله وأعرض عن الإيمان بالنبيّ الجائي ‏{‏فأولئك هُمُ الفاسقون‏}‏ المتمردون من الكفار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 97‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏ قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏94‏)‏ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏95‏)‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏96‏)‏ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ الله‏}‏ دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة، والمعنى فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما‏.‏ ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره‏:‏ أيتولون فغير دين الله يبغون‏.‏ وقدم المفعول وهو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل ‏{‏يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات‏}‏ الملائكة ‏{‏والأرض‏}‏ الإنس والجن ‏{‏طَوْعاً‏}‏ بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه ‏{‏وَكَرْهًا‏}‏ بالسيف أو بمعاينة العذاب كنتق الجبل على بني إسرائيل وإدراك الغرق فرعون والإشفاء على الموت، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده‏.‏ وانتصب ‏{‏طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ على الحال أي طائعين ومكرهين ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ فيجازيكم على الأعمال «يبغون» و«يرجعون» بالياء فيهما‏:‏ حفص، وبالتاء في الثاني وفتح الجيم أبو عمرو لأن الباغين هم المتولون والراجعون جميع الناس، وبالتاء فيهما وفتح الجيم‏:‏ غيرهما‏.‏

‏{‏قُلْ ءَامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا‏}‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان فلذا وحد الضمير في «قل» وجمع في «آمنا» أو أمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه‏.‏ وعدي «أنزل» هنا بحرف الاستعلاء وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر‏.‏ وقال صاحب اللباب‏:‏ الخطاب في البقرة للأمة لقوله ‏{‏قُولُواْ‏}‏ فلم يصح إلا «إلى» لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعاً، وهنا قال «قل» وهو خطاب للنبي عليه السلام دون أمته فكان اللائق به «علي» لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيه، وفيه نظر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب ءامِنُواْ بالذى أُنزِلَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 72‏]‏ ‏{‏وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط‏}‏ أولاد يعقوب وكان فيهم أنبياء ‏{‏وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى والنبيون‏}‏ كرر في البقرة و«ما أوتي» ولم يكرر هنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال «لما آتيتكم» ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ من عند ربهم ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ‏}‏ في الإيمان كما فعلت اليهود والنصارى ‏{‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكاً في عبادتنا ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام‏}‏ يعني التوحيد وإسلام الوجه لله أو غير دين محمد عليه السلام ‏{‏دِينًا‏}‏ تمييز ‏{‏فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخرة مِنَ الخاسرين‏}‏ من الذين وقعوا في الخسران ونزل في رهط أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة‏.‏

‏{‏كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم‏}‏ والواو في ‏{‏وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ‏}‏ للحال و«قد» مضمرة أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول أي محمداً حق، أو للعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأن معناه بعد أن آمنوا ‏{‏وَجَاءهُمُ البينات‏}‏ أي الشواهد كالقرآن وسائر المعجزات ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ أي ما داموا مختارين الكفر، أو لا يهديهم طريق الجنة إذا ماتوا كفاراً ‏{‏أولئك‏}‏ مبتدأ ‏{‏جَزَآؤُهُمْ‏}‏ مبتدأ ثانٍ خبره ‏{‏أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله‏}‏ وهما خبر «أولئك» أو «جزاؤهم» بدل الاشتمال من «أولئك» ‏{‏والملائكة والناس أَجْمَعِينَ خالدين‏}‏ حال من الهاء والميم في «عليهم» ‏{‏فِيهَا‏}‏ في اللعنة ‏{‏لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ الكفر العظيم والارتداد ‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏ ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لكفرهم ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بهم‏.‏

ونزل في اليهود ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بعيسى والإنجيل ‏{‏بَعْدَ إيمانهم‏}‏ بموسى والتوراة ‏{‏ثُمَّ ازدادوا كُفْراً‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، أو كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم فيه في كل وقت أو نزل في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة‏.‏ وازديادهم الكفر أن قالوا‏:‏ نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون ‏{‏لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏ أي إيمانهم عند البأس لأنهم لا يتوبون إلا عند الموت قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 85‏]‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون * إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرض‏}‏ الفاء في «فلن يقبل» يؤذن بأن الكلام بني على الشرط والجزاء، وأن بسبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر، وترك الفاء فيما تقدم يشعر بأن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب ‏{‏ذَهَبًا‏}‏ تمييز ‏{‏وَلَوِ افتدى بِهِ‏}‏ أي فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً قال عليه السلام ‏"‏ يقال للكافر يوم القيامة لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ فيقال له‏:‏ لقد سئلت أيسر من ذلك ‏"‏ قيل‏:‏ الواو لتأكيد النفي ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ مؤلم ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ معينين دافعين للعذاب‏.‏

‏{‏لَن تَنَالُواْ البر‏}‏ لن تبلغوا حقيقة البر أو لن تكونوا أبراراً أو لن تنالوا بر الله وهو ثوابه ‏{‏حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثروها‏.‏ وعن الحسن‏:‏ كل من تصدق ابتغاء وجه الله بما يحبه ولو تمرة فهو داخل في هذه الآية‏.‏ قال الواسطي‏:‏ الوصول إلى البر بإنفاق بعض المحاب وإلى الرب بالتخلي عن الكونين، وقال أبو بكر الوراق‏:‏ لن تناولوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم‏.‏

والحاصل أنه لا وصول إلى المطلوب إلا بإخراج المحبوب‏.‏ وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدال السكر ويتصدق بها فقيل له‏:‏ لم لا تتصدق بثمنها‏؟‏ قال‏:‏ لأن السكر أحب إليّ فأردت أن أنفق مما أحب‏.‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَئ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ أي هو عليكم بكل شيء تنفقونه فيجازيكم بحسبه‏.‏ و«من» الأولى للتبعيض لقراءة عبد الله «حتى تنفقوا بعض ما تحبون» والثانية للتبيين أي من أي شيء كان الإنفاق طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه‏.‏ ولما قالت اليهود للنبي عليه السلام‏:‏ إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال عليه السلام ‏"‏ كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحله ‏"‏ فقالت اليهود‏:‏ إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام نزل تكذيباً لهم‏.‏

‏{‏كُلُّ الطعام‏}‏ أي المطعومات التي فيها النزاع فإن منها ما هو حرام قبل ذلك كالميتة والدم ‏{‏كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل‏}‏ أي حلالاً وهو مصدر‏.‏ يقال حل الشيء حلاً ولذا استوى في صفة المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل‏}‏ أي يعقوب ‏{‏على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة‏}‏ وبالتخفيف مكي وبصري وهو لحوم الإبل وألبانها، وكانا أحب الطعام إليه‏.‏ والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه، فلما نزلت التوراة على موسى حرم عليهم فيها لحوم الإبل وألبانها لتحريم إسرائيل ذلك على نفسه ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ماحرم عليهم تحريم حادث سبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم كما يدعونه، فلم يجرؤوا على إخراج التوراة وبهتوا‏.‏ وفيه دليل بيّن على صدق النبي عليه السلام وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه ‏{‏فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب‏}‏ بزعمه أن ذلك كان محرماً في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ من بعدما لزمهم من الحجة القاطعة ‏{‏فأولئك هُمُ الظالمون‏}‏ المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات ‏{‏قُلْ صَدَقَ الله‏}‏ في إخباره أنه لم يحرم وفيه تعريض بكذبهم أي ثبت أن الله تعالى صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون ‏{‏فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم‏}‏ وهي ملة الإسلام التي عليها محمد عليه السلام ومن آمن معه حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ حال من إبراهيم أي مائلاً من الأديان الباطلة ‏{‏وَمَا كَانَ مِنَ المشركين‏}‏‏.‏

ولما قالت اليهود للمسلمين‏:‏ قبلتنا قبل قبلتكم نزل ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ‏}‏ والواضع هو الله عز وجل‏.‏ ومعنى وضع الله بيتاً للناس أنه جعله متعبداً لهم فكأنه قال‏:‏ إن أول متعبد للناس الكعبة وفي الحديث ‏"‏ إن المسجد الحرام وضع قبل بيت المقدس بأربعين سنة ‏"‏ قيل‏:‏ أول من بناه إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ هو أول بيت حج بعد الطوفان‏.‏ وقيل‏:‏ هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض‏.‏ وقيل‏:‏ هو أول بيت بناه آدم عليه السلام في الأرض‏.‏ وقوله «وضع للناس» في موضع جر صفة ل «بيت» والخبر ‏{‏لَلَّذِى بِبَكَّةَ‏}‏ أي للبيت الذي ببكة وهي علم للبلد الحرام‏.‏ ومكة وبكة لغتان فيه‏.‏ وقيل‏:‏ مكة البلد وبكة موضع المسجد‏.‏ وقيل‏:‏ اشتقاقها من بكه إذا زحمه لازدحام الناس فيها، أو لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه الله‏.‏ ‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ كثير الخير لما يحصل للحجاج والمعتمرين من الثواب وتكفير السيئات ‏{‏وَهُدًى للعالمين‏}‏ لأنه قبلتهم ومتعبدهم، و«مباركاً وهدى» حالان من الضمير في وضع ‏{‏فِيهِ ءايات بينات‏}‏ علامات واضحات لا تلتبس على أحد ‏{‏مَّقَامُ إبراهيم‏}‏ عطف بيان لقوله «آيات بينات»‏.‏ وصح بيان الجماعة بالواحد لأنه وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى، ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد، أو لاشتماله على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة على أن ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً‏}‏ عطف بيان ل «آيات» وإن كان جملة ابتدائية أو شرطية من حيث المعنى لأنه يدل على أمن داخله فكأنه قيل‏:‏ فيه آيات بينات مقام لإبراهيم وأمن داخله، والاثنان في معنى الجمع‏.‏ ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل‏:‏ فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله وكثير سواهما نحو انمحاق الأحجار مع كثرة الرماة، وامتناع الطير من العلو عليه وغير ذلك، ونحوه في طي الذكر قوله عليه السلام ‏"‏ حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة ‏"‏ فقرة عيني ليس من الثلاث بل هو ابتداء كلام لأنها ليست من الدنيا، والثالث مطوي وكأنه عليه السلام ترك ذكر الثالث تنبيهاً على أنه لم يكن من شأنه أن يذكر شيئاً من الدنيا فذكر شيئاً هو من الدين‏.‏ وقيل في سبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عليه السلام عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه‏.‏

وقيل‏:‏ إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل عليه السلام‏:‏ إِنزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه، وأمان من دخله بدعوة إبراهيم عليه السلام ‏{‏رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏ وكان الرجل لو جنى كل جناية ثم التجأ إلى الحرم لم يطلب‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه‏:‏ لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه‏.‏ ومن لزمه القتل في الحل بقود أو ردة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج‏.‏ وقيل‏:‏ آمنا من النار لقوله عليه السلام من ‏"‏ من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا من النار ‏"‏ وعنه عليه السلام ‏"‏ الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة ‏"‏ وهما مقبرتا مكة والمدينة‏.‏ وعنه عليه السلام ‏"‏ من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام ‏"‏ ‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت‏}‏ أي استقر له عليهم فرض الحج «حج البيت»‏:‏ كوفي غير أبي بكر وهو اسم وبالفتح مصدر‏.‏ وقيل‏:‏ هما لغتان في مصدر حج ‏{‏منْ‏}‏ في موضع جر على أنه بدل البعض من الكل ‏{‏استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ فسرها النبي عليه السلام بالزاد والراحلة‏.‏ والضمير في «إليه» للبيت أو للحج وكل مأتي إلى الشيء فهو سبيل إليه‏.‏ ولما نزل قوله تعالى‏:‏ «ولله على الناس حج البيت»‏.‏ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا ‏"‏ فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون، وكفرت به خمس ملل قالوا‏:‏ لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ أي جحد فرضية الحج وهو قول ابن عباس والحسن وعطاء، ويجوز أن يكون من الكفران أي ومن لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم وسعة الرزق ولم يحج ‏{‏فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين‏}‏ مستغنٍ عنهم وعن طاعتهم‏.‏ وفي هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد‏:‏ منها اللام و«على» أي أنه حق واجب لله في رقاب الناس، ومنها الإبدال ففيه تثنية للمراد وتكرير له، ولأن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين، ومنها قوله «ومن كفر» مكان ومن لم يحج تغليظاً على تاركي الحج، ومنها ذكر الاستغناء وذلك دليل على المقت والسخط، ومنها قوله «عن العالمين» وإن لم يقل عنه وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه‏.‏